English version published in the Legal Agenda

نُشر في جريدة الأخبار

في إطار عمله على توثيق القوانين المتعلّقة بالتنظيم المدني في لبنان وتحليل آثارها على المشهد العمراني، أصدر المرصد الجامعي للإعمار وإعادة الإعمار (مجال – MAJAL ) التابع للأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة (ALBA) كتابًا بحثيًّا تحت عنوان “الشاطئ”[1]، وهو خلاصة بحث أجريته مع سيباستيان لامي (دكتوراه في القانون ومخطط مدن) تحت إشراف د. سيرج يازجي (مهندس معماري ومخطط مدن). في ظلّ الهجمة المستشرية على الشاطئ اللبناني من قبل المستثمرين والمشرّعين نفسهم عبر الترخيص بإشغال الأملاك العامّة البحريّة لمشاريع لا تحترم حتّى الشروط المنصوص عليها في القوانين من جهة، والتغاضي عن آلاف المشاريع المعتدية من خلال إقرار قانون تسوية لها[2] من جهة أخرى، يوثّق هذا العمل مجمل النصوص التي تشكّل الإطار القانوني للشاطئ اللبناني لفهم التحدّيات الراهنة كما يطرح توصيات لحلول عمليّة تهدف إلى استعادة دور الشاطئ الحيوي في الحيّز العام وضمان حق المواطنين بالوصول إليه.

يستعيد هذا المقال الخطوط العريضة التي تناولها البحث لا سيّما التغيّرات في النصوص القانونيّة لنظهر كيف كرّست الدولة الإستثمار على الشاطئ اللبناني، تدريجيّا، على حساب المصلحة العامّة ووجوب تصحيح هذا المسار في القانون اللبناني بعد توقيع لبنان لبروتوكول مدريد في 1 آب 2017 المتعلّق بالإدارة المتكاملة للمناطق الساحليّة في حوض البحر الأبيض المتوسّط.

1925 – 2017 : مراسيم تشوّه الشّاطئ والقانون

حدّدت الأملاك العامّة البحريّة عام 1925 بالقرار 144/S الذي له قوّة القانون لكونه صادراً عن المفوّض السامي الجنرال سراي في 10 حزيران 1925، وهي “تشمل شاطئ البحر حتّى أبعد مسافة يصل إليها الموج في الشتاء وشطوط الرمل والحصى (…) والغدران والبحريّات المالحة المتّصلة رأسًا بالبحر والسّدود البحريّة أو النهريّة والمرافئ والفرض البحريّة والخلجان… ” وبالتالي حدود الأملاك العامّة البحريّة ليست ثابتة عبر الزمن وإنّما قابلة للتغيّر بفعل العوامل الطبيعيّة مثل تآكل الشواطئ أو تراكم الرمال. إلا أنّ مساحة الأملاك العامّة البحريّة لا يمكن أن تتقلّص إذا تراجعت مسافة الأمواج ولكن باستطاعها أن تتوسّع[3] فهي أيضًا لا تباع ولا تكتسب ملكيّتها بمرور الزمن[4]. أي أنّ كلّ قطعة أرض مدرجة ضمن الأملاك العامّة البحريّة لا يمكن أن تستخرج منها لإلحاقها بأملاك خاصّة متاخمة لها إذا تراجع مستوى البحر بفعل التغيّرات المناخيّة والطبيعيّة. كذلك، إذا ارتفعت مياه البحر وغطّت أجزاءً من العقارات الخاصّة، يتمّ تحديث حدود الأملاك العامّة البحريّة لتشمل هذه الأجزاء. ويلحظ القانون الفرنسي قرارًا للمجلس الدستوري يشرّع إضافة هذه الأجزاء من العقارات الخاصّة إلى الأملاك العامّة البحريّة دون دفع أي تعويض للمالك[5]، لكنّه في الوقت نفسه يجيز له بناء حاجز على حدود عقاره ليحميه من عمليّة تآكل الشواطئ عند الضرورة[6] .

ماذا يفسّر إذًا وجود بعض العقارات الخاصّة على الشواطئ كما هي الحال في الرملة البيضا مثلاً؟ لا بدّ أنّ ملكيّتها سابقة للقانون وتعود لزمن لم يكن ممنوعًا فيه تملّك شاطئ رملي. وبعد صدور هذا القرار، لم تعتبر الدولة آنذاك أنّ هناك مبرّرات لاستملاكها[7] (أقلّه حتّى إثبات العكس). فالمادّة الثالثة من القرار تحافظ على حقوق الملكيّة أو التصرّف التي “لا يمكن إنتزاعها إذا أحوجت إليها المنفعة العامّة إلّا بعد تعويض عادل ومسبق”. وإذا كانت الأملاك العامّة معدّة بطبيعتها لاستعمال المصلحة العامّة، يفتح هذا القرار بابًا للإستثناء فهو يتيح الإشغال الخاص بشرط المحافظة على حقوق الغير، على أن يكون هذا الإشغال مؤقّتا (لسنة واحدة قابلة للتجديد) ومقابل رسم ويحق للإدارة العامّة إلغاءه دون أي تعويض متى تشاء. وتباعًا، صدرت مراسيم عدّة بعد الإستقلال لتحدّد تفاصيل الإشغال المؤقّت للأملاك العامّة البحريّة والتي لم تكن واضحة في القرار التشريعي لا سيّما البدلات المترتّبة والآليّة المتّبعة. غير أنّها ابتعدت كثيرًا عن مفاهيم المصلحة العامّة المكرّسة في القانون فشوّهته وغلّبت مصالح المستثمرين. فعام 1949، شكّلت لجنة دائمة مهمّتها تحديد الرسوم المتوجّبة على إشغال كل الأملاك العامّة. وعام 1963، حدّدت لأوّل مرّة البدلات المترتّبة على إشغال الأملاك العامّة البحريّة دون إنشاء أي بناء[8] وعدّلت لاحقًا بالمرسوم 2522/1992 (والذي ما زال يطبّق حتّى اليوم) لتشمل أيضًا كافّة المساحات المبنيّة بما فيها الطوابق السفليّة وطابق الأعمدة والشرفات (بينما لا تدخل هذه المساحات في معدّل الإستثمار العام حسب قانون البناء). وهنا يكمن أوّل تشويه للقرار التشريعي 144 /S  عندما تحوّلت الإجازة بالإشغال المؤقّت (autorisation d’occupation précaire et temporaire في النسخة الرسميّة باللّغة الفرنسية) إلى ترخيص بالإشغال (permis d’occupation) يشمل أيضًا الترخيص بالبناء وذلك بموجب المراسيم الصادرة عام 1964 و1966 وتعديلاتها، خلافًا للقانون الذي لا يجيز البناء الدائم.

فعام 1964، برزت رؤية جديدة للشاطئ اللبناني تعطيه دورًا أساسيًّا في النهضة الإقتصاديّة وسياسة جذب الإستثمارات. فصدر المرسوم رقم 17614 لينظّم إستثمار الأملاك العامّة البحريّة غير المستثمرة حاليّا عبر إصدار مراسيم خاصة تُمنَح بقرار من وزير الأشغال العامّة والنقل. واقتصر المرسوم على تحديد تفاصيل الإجراءات الإداريّة التي على طالب الترخيص أن يتبعها. أمّا نظام إشغال الأملاك العامّة البحريّة المتَّبَع اليوم فقد حُدِّد بالمرسوم رقم 4810 الصادر في 24 حزيران 1966 الذي ربط إمكانيّة الإشغال بضرورة تملّك عقار متاخم للأملاك العامّة البحريّة وفرَضَ شروطا خاصّة لهذه العقارات (مساحة دنيا، نسبة طول/عمق العقار…) على أن تكون الأملاك العامّة البحريّة المراد إشغالها واقعة في منطقة مصنّفة سياحيّة أو صناعيّة وفقًا لخرائط مرسوم تنظيم الشواطئ اللبنانيّة[9]. فقد شدّد المرسوم 4810 على الصفة العامّة والجدوى الاقتصاديّة للمشروع المنوي إنشاؤه كشرط أساسي للحصول على ترخيص بالإشغال (المادة الأولى – أ -1). وللمرّة الأولى، وضعت معدّلات إستثمار سطحي وعام لإشغال الأملاك العامة البحرية (مع إمكانيّة طلب الإستثناء لزيادة مساحة البناء) وأصبح بذلك البناء مشرّعًا على الشاطئ. فالمرسوم يحدّد مرحلتين واضحتين: “ترخيص بإشغال الأملاك العامّة البحريّة” و”رخصة بناء المؤسّسات”، وإنّما على هذه الإنشاءات “ألّا تشكّل عائقًا لوحدة الشاطئ”. نرى اليوم أنّ هذه الشروط لا تحترمها أيٌّ من المؤسّسات السياحيّة على طول الشاطئ اللبناني بالرغم من ذكرها بوضوح على كلّ التراخيص الخاصّة الممنوحة، فكلّها تحتكر الشاطئ وتشيّد الحواجز لتعزل الأملاك البحريّة المستثمرة ولتمنع وصول المواطنين المجّاني إليها أيضًا خلافاً لكلّ النصوص القانونيّة التي “تضمن حقوق الغير” لا سيّما قانون تحديد الأملاك العامّة البحريّة[10]، المراسيم التي تسمح إشغالها وحديثًا قانون البيئة الذي “يمنع الأشغال على الأملاك العموميّة البحريّة أو النهريّة التي تعرقل الولوج الحر إلى السواحل والشواطئ الرمليّة.”[11]

إذًا حدّد المرسوم 4810 الإطار القانوني للإستثناء[12] الذي بات معمّمًا على مجمل الساحل اللبناني بعد تعديله عام 1980 لإلغاء شرط الجدوى الإقتصاديّة بالمرسوم 3543 الذي سمح بإشغال الأملاك العامّة البحريّة على كل الأراضي اللبنانيّة مهما كان تصنيفها، ما أدّى إلى تشويه شبه كلّي للواجهة البحريّة، نتيجة إصدار مراسيم استثنائية بشكل عشوائي دون أي تخطيط، لا يتقيّد أصحابها حتّى بالشروط المفروضة. أضف إلى ذلك آلاف الأبنية والمنتجعات المعتدية على الشاطئ التي ظهرت في فترة الحرب وبعدها دون أي محاسبة فارتفع جدار من الباطون على الساحل اللبناني، يشوّه البيئة وهويّة المدن الساحليّة ويحرم المواطنين من حقّهم المشروع بالولوج الحر إلى البحر والإستمتاع بأملاكهم العامّة.

وقد أصدرت في هذا السياق وزارة الأشغال العامّة والنقل – المديريّة العامّة للنقل البحري والبرّي تقريرًا مفصّلاً بالإشغالات والتعدّيات على الأملاك العامّة البحريّة عام 2012.

 

frise A3
(التشريعات والمراسيم المتعلقة بالأملاك العامّة البحريّة (انقر الصورة للتكبير

 

أكثر من 1068 تعدٍّ: حوالى 20% فقط من الشاطئ متاح للعموم

وثّق تقرير وزارة الأشغال العامّة والنقل بالأرقام والأسماء الإشغالات على الشاطئ اللبناني التي بلغت، عام 2012، 5.306.994 متر مربّع مجموع الردميّات والأبنية وإشغال المسطّح المائي، 54% منها تعدّيات على الأملاك العامّة البحريّة. إلّا أنّ هذا الرقم بعيد عن الواقع إذ لا يشمل ردميّات الوسط التجاري في بيروت ولا ردميّات ساحل المتن (المارينا ضبيه) ولا المؤسّسات التابعة للجيش اللبناني. وفي دراسة حديثة من إعداد معهد الدراسات البيئيّة في جامعة البلمند، أظهر مسح التغيّرات على الساحل اللبناني أنّ مساحة الردميّات وحدها بلغت 8 ملايين متر مربّع، ما يحتّم نتائج كارثيّة على البيئة البحريّة والثروة السمكيّة[13]. فإذا كان طول الشاطئ اللبناني 220 كلم، فقط 40 كلم لا تزال مفتوحة للعموم أي ما يقارب 20%. وقد أصدرت الدولة اللبنانيّة وفقًا للأصول يرخّص بإشغال الأملاك العامّة البحريّة فيما بلغت التعدّيات 1068. وفي ملحق لهذا التقرير أعدّت وزارة الأشغال لائحة بالغرامات المسدّدة وغير المسدّدة وهنا المفاجأة: فقد تمّ تسديد 9 غرامات فقط وأزيلت المخالفة، فيما اقتصرت لائحة الغرامات المفروضة وغير المسدّدة على 106 غرامة فقط لا غير. وخلص التقرير بمشروع قانون لتسوية المخالفات على الأملاك العامّة البحريّة.

Copy of Décrets-Frise chronologique finale-AR.xlsx

Copy of Décrets-Frise chronologique finale-AR.xlsxCopy of Décrets-Frise chronologique finale-AR.xlsx

ولكن، كيف تعالج التعديات في ظلّ الإطار القانوني الراهن للأملاك العامّة البحريّة؟

المادة 23 من القرار التشريعي 144/S واضحة: هدم الأشغال المقامة بصورة غير مشروعة وفرض غرامة. وقد صدر القرار رقم 7 تاريخ 11/1/1974 عن وزيري الأشغال والداخليّة ليؤكّد ذلك ويعطي تعليمات مشتركة لتنسيق العمل في ما يتعلّق بضبط وإزالة المخالفات على الأملاك العامّة البحريّة، و”تنفيذًا للقوانين السارية المفعول” تُزال المخالفات بالهدم على نفقة المعتدي. فتسوية التعدّيات لم تكن واردة وطرحت للمرّة الأولى عام 1983 بالمرسوم الإشتراعي رقم 144 ولكنّه لم يطبّق في ظل الأوضاع السياسيّة والحرب. أمّا اليوم، بعد تفاقم التعدّيات، أُدرج مشروع المقترح من قبل وزارة الأشغال في المادّة 11 من قانون السياسة الضرائبيّة في تشرين الأوّل 2017 تحت عنوان “معالجة الإشغال غير القانوني للأملاك العامّة البحريّة”.[14] والتحوّل التدريجي في المصطلحات من تعدّ إلى مخالفة فإشغال غير قانوني يعكس مرّة جديدة إنحياز المشرّع لمصالح المستثمرين على حساب المصلحة العامّة. فحتّى لو ينصّ القانون بوضوح أنّ “معالجة الإشغال غير القانوني للأملاك العامّة البحريّة لا ترتّب للمخالف أي حقوق مكتسبة بوجه الدولة”، نجده يضحّي بالأبعاد المتعدّدة للشاطئ تراثياً، طبيعياً، ثقافياً وبيئياً. فعوضًا عن انطلاقه من مبدأ حقوقي يراعي وظيفة الشاطئ الإجتماعيّة والسياحيّة، يعتمد منطلقا ماليا بحت بحجّة تمويل صناديق الدولة المهدورة. غير أنّ الغرامات المفروضة أتت زهيدة جدًّا إذ ترتكز على سعر المتر مربّع بحسب التخمين المعتمد عام كما أنّ احتساب الغرامات يتمّ عبر تطبيق نسب مضاعفة على البدلات السنويّة (كما حدّدها المرسوم 2522 عام 1992) وتتراوح هذه النسب بين 1.75% و3.5% حسب حالة التعدي. أمّا الرسوم التي تطبّق على الفترة اللاحقة لتاريخ المعالجة، فهي لا تتجاوز 1.5%.[15] هذه النسب متدنّية جدًّا لإشغال الأملاك العامّة مقارنةً مع النسب المعتمدة مثلاً للرسوم البلديّة على القيمة التأجيريّة للأملاك الخاصّة والتي تبلغ 6.5 % للأماكن المستعملة للسكن و8.5% لغير السكن[16] ، ما يعني أنّ هذا القانون لن يأتي بعائدات ماليّة كبيرة على خزينة الدولة، خلافًا لمبرّرات وجوده.

فيما يشكّل البحر حدود لبنان الغربيّة بكاملها، نجد اللبنانيين محرومين من الإستمتاع به. فقد إحتلّت الأبنية الشاطئ وبدأت اليوم تحتلّه المطامر، لا سيّما مع قرار مجلس الوزراء في 11/01/2018 بتوسيع مطمري الكوستابرافا وطرابلس، وفي ذلك مخالفة لقانون حماية البيئة الذي يمنع الطمر وتلويث الشاطئ من جهة ولتوجيهات الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانيّة[17] من جهة أخرى. وإذا كان قانون البيئة لا يحمي على نحوٍ فعّال الشاطئ إذ يطرح النوايا ولكن دون إجراءات تطبيقيّة حقيقيّة، يفتح بروتوكول مدريد الذي وقّعّه لبنان عام 2017 آفاقًا جديدة مهّمة في هذا الشأن وذلك لأنّ لبنان أصبح ملتزما بها. أي على لبنان إصدار قانون خاص بالمنطقة الساحليّة وسينتج عن ذلك رؤية جديدة متكاملة لها.

Copy of Décrets-Frise chronologique finale-AR.xlsxCopy of Décrets-Frise chronologique finale-AR.xlsx

 بروتوكول مدريد وإلتزام لبنان الدولي: مشروع قانون الإدارة المتكاملة للمناطق الساحليّة

وقّع لبنان بروتوكول مدريد[18] الذي أصبح نافذًا منذ 31 آب 2017. يهدف البروتوكول إلى تعزيز الإدارة المتكاملة للمناطق السّاحليّة (ICZM) في حوض البحر الأبيض المتوسّط، مع الأخذ بعين الإعتبار حماية المناطق ذات الأهمّية الإيكولوجيّة والمناظر الطبيعيّة والإستعمال الرّشيد للموارد. بمعنى آخر، يوسّع البروتوكول نطاق الحماية لتتخطّى حدود الأملاك العامّة البحريّة وتشمل كل المناطق الساحليّة التي تشكّل بطبيعتها النطاق الحيوي للشاطئ. وأبرز توصياته، تكريس مبدأ الشريط الساحلي بعرض 100 متر حيث يمنع البناء (المادّة 8). كما يطرح تدابير متعدّدة لحماية المناطق الساحليّة كالحدّ من التوسّع العمراني الأفقي على طول الشاطئ وتنظيم ممرّات تضمن الوصول الحر والمجّاني إليه. وهذه المبادئ كرّست في فرنسا مثلاً منذ عام 1986 حين اعتُمِد قانون حماية الشاطئ (la loi Littoral ) الذي وضع إطارًا لتطوير الساحل الفرنسي بهدف حمايته من تجاوزات المضاربات العقاريّة وللسّماح للمواطنين بالوصول الحرّ عبر المسارات الساحليّة (“Sentier littoral”). وأهمّية هذا القانون تكمن في أنّ أحكامه أدخلت في قانون التنظيم المدني وأصبحت مقيّدة، أي أنّ كل ترخيص لمشروع ما عليه التقيّد بشروط هذا القانون وإذا خالف أحدها، يمكن رفضه حتّى ولو كان مطابقًا للمخطط التفصيلي المحلّي للمنطقة.

إذًا، دخل لبنان اليوم مرحلة جديدة من التشريع لحماية الشاطئ إذ لا يكفي توقيع المعاهدة لكي تصبح بنودها ملزمة في لبنان فعلى الدولة أن تُدخل توصياتها في القانون اللبناني. لذلك، طرحت وزارة البيئة مشروع قانون الإدارة المتكاملة للمناطق الساحليّة (Integrated Coastal Zones Management – ICZM law)  بالتعاون مع معهد الدراسات البيئية في جامعة البلمند، والذي يستعيد أحكام بروتوكول مدريد المتعلّقة بحماية الشاطئ والموارد والثروة البحرية وأهمّها إنشاء حزام ساحلي بعرض مئة متر يمنع ضمنه البناء. كما يكرّس القانون حق المواطن بالوصول الحر إلى الشاطئ وبصورة مجّانيّة عبر تخصيص ممرّات للمشاة بصورة منتظمة وضمن مسافة محدّدة لا تتجاوز 3000 متر كحد أقصى لكي تضمن حق المرور بشكلٍ سهل. ويحدّد مشروع القانون تفاصيل إنشاء “المجلس الوطني للإدارة المتكاملة للمنطقة الساحليّة” الذي سيتولّى مهام هذه الإدارة ومن أولويّاته أن يضع خطّة استراتيجيّة شاملة لإدارة المنطقة الساحليّة ومخطّط توجيهي عام لها وغيرها من التدابير المتعلّقة بحماية البيئة لتحقيق أهداف بروتوكول الـ ICZM وهو يتمتّع بالشخصيّة المعنويّة وبالإستقلال المالي والإداري.

واللافت أنّ هذا المجلس يضمّ بين أعضائه الدائمين رؤساء ثلاث مجموعات جمعيّات شرط أن يضم التجمّع 20 جمعيّة بيئيّة كحد أدنى، واحدة منها على الأقل تعنى بالأمور الساحليّة والبحريّة، وهذه أوّل مرّة يُشرَك فيها المجتمع المدني بصناعة القرار في ما يخصّ الرؤية المستقبليّة للشاطئ وللتطوّر المدني للساحل بشكلٍ عام. كما سيعتمد المجلس المقترح مبدأ التشاركيّة، فبالإضافة إلى الأعضاء الدائمين (وزراء وممثّلين عن البلديّات المعنيّة ورئيس المجلس الأعلى للتنظيم المدني ومدير عام مجلس الإنماء والإعمار)، يشارك في بعض الجلسات أعضاء مدعوّون (حسب الموضوع المتناول) بينهم ممثّل عن نقابة الصيّادين ونقابة المجمّعات السياحيّة البحريّة وإستشاريّين في القضايا العلميّة والقانونيّة والهندسيّة وغيرها.

وإذا كانت هذه الخطوة إيجابيّة ومرحّبًا بها، نتخوّف من تعطيل دور هذا المجلس عبر التدخّلات السياسيّة التي قد تهدّد إستقلاليّته، لأنّه بالرغم من إتّباع التشاركيّة، يتألّف من عدد كبير من الوزراء ويترأسه رئيس مجلس الوزراء وبذلك قد يصبح هذا المجلس صورة مصغّرة عن الحكومة، خاصّة ً أنّ مشروع القانون لا يعطي أي توجيه برفض عضويّةٍ ما في حال تضارب المصالح. أيضًا هناك إمكانيّة تداخل الصلاحيّات بين هذا المجلس والمجلس الأعلى للتنظيم المدني ولا تتناولها المسودّة المطروحة فضلاً عن تداخل المخطط التوجيهي المستقبلي للمنطقة الساحليّة مع المخططات التوجيهيّة المحليّة المعتمدة ومع الخطّة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانيّة. تكتفي مسودّة القانون بالتأكيد على أنّه في حال التناقض بين المخطط التوجيهي للساحل والمخططات الأخرى، على الأوّل أن يطبّق. هذه القاعدة قد تؤدّي إلى الإخلال بالإستقرار القانوني، حيث يستمرّ العمل بمخططات توجيهيّة قديمة لا تطبّق إلا جزئيًّا. لذلك، كان من الأفضل أن يفرض مشروع القانون ضرورة إمتثال كلّ المخطّطات له (obligation de mise en conformité) ضمن مهل محدّدة وقصيرة لتفادي أي تناقض فيجبر الإدارات العامّة على تعديل مخطّطاتها التوجيهيّة وإلا يُمنع البناء ضمنها. فحاليّا، لدينا مشكلة عدم تطابق هذه المخططات مع توجيهات الخطة الشاملة لأن مرسوم تصديق الخطّة لم يتّخذ هذا الإجراء ولم يحدّد أي مهل وعلى المشرّع ألا يعيد الخطأ في قانون الإدارة المتكاملة للمنطقة الساحليّة لكي يكون حقًّا فعّالا.

أخيرًا، لم يُطرح المشروع على مجلس الوزراء بعد. لذلك نتمنّى قبل إقراره أن يعاد النظر بالمسودّة المطروحة لتحسينه وإضافة تفاصيل مقيّدة ونافذة حكمًا لا تحتاج إصدار مراسيم تطبيقيّة. فيكون بذلك هذا القانون فعّالاً في حماية الشاطئ، مكمّلاً لقانون البيئة الحالي، ليضع رؤية مستقبليّة مستدامة للشاطئ اللبناني، فيحدّ من التوسّع العمراني العشوائي عليه من أجل إبراز قيمته البيئيّة والطبيعيّة، واستعادة دوره كمجال إجتماعي حيوي يتمتّع به جميع المواطنين.


[1] Lamy, Sébastien, Bou Aoun, Cynthia, « Le littoral », Majal, ALBA, Publications de l’Université de Balamand, 2017.

[2] المادّة 11 من القانون رقم 64 تاريخ 20 تشرين الأول 2017: معالجة الإشغال غير القانوني للأملاك العامّة البحريّة.

[3] وهذا المبدأ أيضًا سائد في القانون الفرنسي الذي إقتبس منه حرفيًّا هذا القرار الذي صدر عن المفوّض السّامي باللغة الفرنسيّة والعربيّة.

[4]المادّة الأولى من القراررقم 144/S الصادر في 10/6/1925: “تشمل الاملاك العمومية في دولة لبنان الكبير ودولة العلويين جميع الاشياء المعدّة بسبب طبيعتها لاستعمال مصلحة عمومية. وهي لا تباع ولا تكتسب ملكيتها بمرور الزمن.”

[5] Décision n° 2013-316 QPC du 24 mai 2013, SCI Pascal et autre (Limite du domaine public maritime naturel), art I.-A-2 : « Lorsque la délimitation du domaine public maritime naturel est régulière, les propriétaires ne peuvent en principe réclamer une indemnité, même si les conséquences des phénomènes naturels sont une réduction de la superficie de leur propriété au profit du domaine public. »

[6] « Il est possible pour des propriétaires riverains de construire, sur leur propriété, des digues destinées à protéger leur propriété contre la progression de la mer. Cette construction est prévue par l’article 33 de la loi du 16 septembre 1807 relative au dessèchement des marais : « Lorsqu’il s’agira de construire des digues à la mer, ou contre les fleuves, rivières ou torrents navigables ou non navigables, la nécessité en sera constatée par le Gouvernement et la dépense supportée par les propriétés protégées, dans la proportion de leur intérêt aux travaux ; sauf le cas où le Gouvernement croirait utile et juste d’accorder des secours sur les fonds publics ». Ibid.

[7] لغاية عام 1995، كان البناء ممنوعًا نهائيّا على مجمل شاطئ الرملة البيضا لأنّه يقع في المنطقة الإرتفاقيّة العاشرة من المخطط التوجيهي لمدينة بيروت، كما أنّ عقارات الشاطئ كانت مصابة بتخطيط تمديد كورنيش الرملة البيضا لغاية اتصاله بطريق الجناح وبعرض 34 متر. قسّمت لاحقًا المنطقة العاشرة إلى 6 أقسام للسماح بإقامة الأبنية في جزءٍ منها (مرسوم 4811/1966) وألغي التخطيط بالمرسوم 7505 بتاريخ 10/11/1995.

[8] مرسوم رقم 12841 تاريخ 3/6/1963

[9]  مرسوم رقم 4809 الصادر في 24/6/1966 وتعتبر الخرائط المرفقة به جزءًا لا يتجزّأ من المرسوم  4810.

[10]  المادّة 14 من القرار 144/S الصادر في 10/6/1925: ” يعطى الإمتياز أو الإجازة بالإشغال المؤقّت على الأملاك العموميّة بشرط المحافظة على حقوق اللآخرين” (sous réserve du droit des tiers   في النسخة الرسميّة الفرنسيّة ).

[11]  المادّة 33 من قانون حماية البيئة رقم 444 الصادر في 29/7/2002.

[12]  المادّة الأولى: “تبقى الأملاك العامّة البحريّة باستعمال العموم ولا يكتسب عليها لمنفعة أحد أي حق يخوّل إقفالها لمصلحة خاصّة. أمّا السماح بتخصيص جزء من الشاطئ لاستعمال أفراد أو مجموعات وحصر هذا الإنتفاع بهم دون سواهم يكون عملاً إستثنائيّا يمكن تطبيقه في حالات خاصّة تخضع للأسس العامّة التالية”.

[13]  مداخلة الدكتور منال نادر، مدير معهد الدراسات البيئية في جامعة البلمند، في المؤتمر بعنوان “الشاطئ اللبناني والخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية”، نقابة المهندسين في بيروت، 4/12/2017.

[14] القانون رقم 64 تاريخ 20 تشرين الأول 2017

[15]  حسب الجداول رقم 1 ، 2 و3 من المادّة 11 من القانون رقم 64/2017.

[16]  قانون الرسوم والعلاوات البلدية رقم 88/60 : المادّة 12 : ”  تحدد معدلات الرسم على القيمة التأجيرية كما يلي : 5% للأماكن المستعملة للسكن ؛ 7% للأماكن المستعملة لغير السكن” – المادّة 79 : ” يفرض على شاغل البناء أيا كانت صفته (مالكًا، مستأجرًا، مستثمرًا … الخ) رسم صيانة مجارير وأرصفة يستوفي سنويًّا مع الرسم على القيمة التأجيريّة وذلك بنسبة (50, 1) واحد ونصف بالماية من القيمة التأجيرية المعتمدة لفرض الرسم على القيمة التأجيرية”.

[17]  مرسوم رقم 2366 الصادر في 20/6/2009

[18]  بروتوكول للإدارة المتكاملة للمناطق الساحليّة في حوض البحر المتوسّط(Protocol on Integrated Coastal Zone Management in the Mediterranean)  الموقّع  في مدريد في 21/01/2008 المنبثق عن التعديلات التي طرأت على إتفاقيّة حماية البيئة البحريّة والمناطق الساحليّة في المتوسّط التي أقرّت في برشلونة في 10/06/1995. إنضمّ لبنان إلى البروتوكول في 18 أيلول 2014 (مرسوم رقم 639) بعد موافقة مجلس النواب في 16/10/2008 ، وقّعه في 1/08/2017 وأصبح نافذًا منذ 31/08/2017.