في 26 أيّار 2016، أعلن محافظ بيروت القاضي زياد شبيب عن فتح حرش بيروت للجميع كافّة أيّام الأسبوع ابتداءًا من تاريخ 6 حزيران 2016 بعد إقفاله لأكثر من عشرين سنة. وهذا القرار ذو أهمّية كبرى ويعتبر إنجازًا كبيرًا للمجتمع المدني الناشط في هذه القضية إذ يأتي بعد نضالٍ مستمر وخمس سنوات من الضغط على بلديّة بيروت ضمن حملة عامّة أطلقتها جمعيّة “نحن” التي كان لها الدور الأبرز في فتح النقاش حول المساحات العامّة وخاصّة في قضيّة اقفال حرش بيروت. فمنذ إقفاله بعد الحرب، بالرغم من انجاز أعمال ترميمه، وقف حرش بيروت شاهدًا صامتًا على عدم قدرة وكفاءة المؤسسات في ادارة المشاريع المُدنية في العاصمة إذ كانت تتطلّب زيارته اذنًا خاصًا من المحافظ الذي غالبا ما كان يرفض إعطاءه للّبنانيين بحجة الحفاظ على نظافة الحرش وسلامة النباتات بينما كان يسمح فقط الدخول للزوار الأجانب وبعض المواطنين المقرّبين من الادارة والذين تخطوا الثلاثين من العمر بعد درس طلبهم. و بما أنّ هذا التمييز غير قانوني ويشكل خرقا لأبسط حقوق المواطنين لكون الحرج ملكًا عامًّا، أطلقت “نحن” حملتها لتسليط الضوء على أهميّة الحرج الاجتماعية والبيئية وحضّ الرأي العام الى الإنضمام اليها للضغط والمطالبة بإنهاء هذا الوضع الغير قانوني وفتح الحرش مجددًا للجميع دون أي استثناء كما كانت الحال قبل الحرب.

فلحرش بيروت أهميّة اجتماعيّة كبرى إذ يشكّل نقطة تلاقي بين مناطق انطبعت بهويات دينية مختلفة (المزرعة – الطريق الجديدة – قصقص – صبرا – الغبيري – الشياح – بدارو – فرن الشباك – راس النبع) ويقع جغرافيا على حدود خط التماس الذي كان يفصل بيروت الشرقية و الغربية خلال سنوات الحرب (1975 – 1990). واذا كانت اعادة ترميمه ضرورية لخلق نوع من التلاقي بين جزءي المدينة، كان إغلاقه الدائم دليلا مخزيا لفشل عملية إعادة الاعمار والمصالحة. فترميم واعادة تأهيل الحرش تهدف أولا الى اعادة الحياة المدنية اليه وذلك لا يتم الا بعودة المواطنين اليه دون استثناء لكي تصبح هذه المساحة، التي هي اليوم في الذهنية السائدة على أطراف المدينة، قلبها النابض. فهذا المرفق العام يساهم في تقليص المسافة بين الطبقات الإجتماعيّة والمجموعات الدينية والإتنية التي ستخرج من تقوقعها للتلاقي في هذا الفضاء العام كمجموعة مواطنين متساوين، والتفاعل في ما بينهم في حرش بيروت يساهم في إلتحام المدينة المقسّمة حاليًا حسب هويّات طائفيّة فتبدو وكأنّها مجموعة أحياء أو “مُدُن” مختلفة متجاورة في قلب مدينة واحدة دون التخاطب أو التداخل.

وفي هذا السياق، كانت “يوتوبيا” التلاقي العنصر الأبرز الذي دفع الفرنسيين بتقديم الدعم المالي بحيث تكون هذه الفسحة العامة إختبارًا للتقارب والعيش المشترك للخروج من الحرب. فقد بدأ العمل على إعادة تأهيل حرش الصنوبر عام 1992 بفضل التعاون مع منطقة إيل دو فرانس التي قدمت الدعم المالي للمشروع فأشرف “مركز التخطيط والتنمية الحَضَرية في منطقة إيل دو فرانس” (IAURIF) على الدراسات الهندسية ضمن إدارة مشتركة (Copilotage) بين مجلس الانماء و الاعمار ووكالة المساحات الخضراء في منطقة ايل دو فرانس (Agence des Espaces Verts). وعام 1999 ، فتح قسم من الحرش يقدّر فقط بعشرة بالمئة من مساحته الاجمالية على ان يفتح بكامله عند انتهاء جميع الأشغال أي في الـ2002 إلا انه ما لبس ان أغلق حتى اليوم، لغاية تجاوب محافظ بيروت الحالي ودعمه لمطالب الحملة مما أدّى إلى فتحه النهائي المترقّب في الأسبوع الجاري.

20150912_184134

1- حرش بيروت في التاريخ: من الحرش الى الحديقة العامة

على مرّ الأزمنة، تعرّض الحرش الى انتهاكات عديدة قلّصت من المساحات المزروعة منذ الفينيقيين الى الحروب الصليبية وغزوات المماليك حيث قطعت الجيوش أشجارًا عديدة لبناء سفنها.

في مطلع القرن السابع عشر، كان حرش الصنوبرغابة متواصلة خارج أسوار المدينة، توسّعت بقرار من الأمير فخر الدين الثاني المعني الكبير الذي أمر بإعادة تشجير امتداد المدخل الجنوبي لبيروت حيث أنّ أشجار الصنوبر تحمي المدينة من الرياح الجنوبية المُحمّلة بالرمال والغبار من الصحراء الليبية،[1] و أيضًا لتجفيف المستنقعات خارج أسوار المدينة، للحد من انتشار الحمّى الصفراء المتفشّية آنذاك. وبالتالي، في 1696، كان الصنوبر يغطي 1.25 مليون متر مربّع من بيروت وضواحيها الجنوبيّة والشرقيّة.

في القرن التاسع عشر، امتدّ العمران خارج أسوار المدينة، فأقرّ والي بيروت العثماني عام 1840 حرش بيروت مساحة عامّة تحدُّ من التمدّد العمراني، انتقلت ملكيّتها الى بلديّة بيروت عام 1878.

بين 1920 و 1980، استُؤصلت مساحات كبيرة من الحرش بإنشاء كازينو عثماني (1915) وميدان سبق الخيل (1921) ولاحقًا مدافن الشهداء (1958) و مدفن روضة الشهيدين (1970)؛ ومع شق الطرقات وتوسيعها، أصبح حرش بيروت على شكله  المثلّث الحالي، مفصولاً عن نسيج المدينة، تحدّه الطرقات من كلّ جنب، وتقلّصت مساحته من 1.250.000 متر مربّع الى 330.000 متر مربّع فقط.[2]

عام 1960، أصدر رئيس الوزراء سامي الصلح مرسومًا يخصّص الحرش “حديقة عامّة” مُحاطة بأسوار لحمايتها، و”لم يعُد الدّخول اليها عشوائيًّا وصار أكثر ترتيبًا و تنظيمًا وظلّ الوضع على هذه الحال الى أن اندلعت الحرب الأهليّة عام 1975″.[3] فكان إنشاء السور حول الحرش نقطة مفصليّة وبدايةً لتغيُّرعلاقة الناس بالمشهد المديني وانخراطهم في الحيّز العام، حين تحوّلت هذه المساحة العامّة من حرش مفتوح للجميع دون أيّ قيد أو شرط، إلى حديقة عامّة لها نظامها الخاص ومواعيد محدّدة للدخول…

وللحرش وقعٌ كبير في الذاكرة الجماعيّة لسكان بيروت ما قبل الحرب، فلطالما احتفل البيروتيّون بأعيادهم الدينيّة والرسميّة في حرش بيروت بعدما تعذّرالإحتفال كما جرت العادة في ساحة عَصّور (ساحة رياض الصلح اليوم) عندما هُدم السور وامتدّ العمران الى خارجه.

 ولذلك، بعد أن أحرق الإجتياح الإسرائيلي الحرش عام 1982 بحجّة أن الفصائل الفلسطينية المسلّحة أتخذته ملاذًا لها، كانت إعادة تشجيره، والأهم من ذلك، اعادة الحياة الإجتماعية له، من أبرز المشاريع الموضوعة في خطط اعادة الاعمار وتوحيد المدينة بعد الحرب.

IMG_20140709_201200
الرئة الخضراء لمدينة مكتظة بالبناء العشوائي

2- النقاش حول المساحات العامة : حرش بيروت في قلب المخططات التوجيهية منذ 1986 – 2012

فيما تسعى الدول المتحضّرة بشكلٍ دائم لوضع خطط شاملة ومستدامة لتطوير مدنها وترتيب أراضيها تكون للمساحات الخضراء والسّاحات العامّة حصّة كبيرة فيها، في لبنان تغيب الاستراتيجيّات المدروسة ذات رؤية بعيدة الأمد، ويبقى التطوّر مرهونًا بالحاجات الآنيّة فتأتي الحلول مجتزأة، وأحيانًا متناقضة في غياب سياسة مٌدنيّة شاملة  ومستدامة. فتتوسّع المدن عشوائيّا على حساب المساحات الخضراء القليلة المتبقّية.

الا أنّه بُعيد الحرب، تمّ وضع دراسات مدنية لإعادة توحيد المدينة وتطوير نسيجها وإعادة إعمارها (1986) ناهيك عن مخطط توجيهي لترتيب الأراضي اللبنانية (2004) ولكنّهما بقيا حبرًا على ورق ولم تُطبَّق ايعازاتهما بشموليّة فشكّلت مقطتفات منها ذريعة لتنفيذ مشاريع مؤقّتة ومجتزأة ضمن سياسة مدنيّة سائدة في لبنان وهي ايجاد الحلول (الناقصة) تلبيةً للحاجات الرّاهنة. وإن أصبحت هذه المخططات قديمة وغير صالحة للتطبيق مع تغيّر المشهد العمراني والإجتماعي بفعل مرور الزمن، تُجمع جميع الدراسات منذ 1986 حتى اليوم على أهميّة حرش بيروت في المشهد المديني على الصعيد البيئي (هو المتنفَّس الوحيد لبيروت ورئتها الخضراء) والإجتماعي (ملتقى شعبي مفتوح لكل الناس من كافّة الطبقات الإجتماعية أو الطوائف).

فالمخطط التوجيهي لبيروت الكبرى ([4] SDRMB 1986)  كرّس حرش الصنوبر منتزه إقليمي (parc (régional   لبيروت وضواحيها، فأوصى بإعادة تشجيره وتحرير أطرافه صوب الجنوب من العمران المخالف العشوائي الذي نشأ خلال الحرب (حرش تابت وحرش القتيل في الضاحية الجنوبية) كذلك أوعز بإنشاء حديقتين عامّتين اضافيّتين في فرن الشباك ومطمر النورماندي  ضمن رؤية خضراء لإعمارالمدينة. فأتت الدراسة لإعادة تأهيل حرش بيروت وتمويله من منطقة إيل دو فرانس عام 1990 (بعد الفوز بمباراة هندسيّة) لتؤكّد ثقة الفرنسيين في أهميّة هذا الفضاء العام في توحيد المدينة بعد الحرب التي مزقّت النسيج المدني والاجتماعي.

وأيضًا أكّد المخطّط الشّامل لترتيب الأراضي اللبنانية ([5] SDATL 2004) أهميّة إدراج حرش بيروت منتزه إقليمي لبيروت الكبرى إذ هو رئتها الخضراء الوحيدة المتبقّية، وتعتبر هذه الخطة الدراسة الأولى في لبنان من حيث شموليّتها لكافّة الأراضي اللبنانيّة فتتعدّى العاصمة لتضع رؤيا مستدامة بيئيّة، إقتصاديّة وإجتماعيّة. ونتيجة عنه، وضع “مخطط المساحات الخضراء والطبيعيّة لمدينة بيروت”[6] دراسة لتحسين المساحات العامّة والخضراء، وتأمين اتّساقها وترابطها مع النسيج المُدُني لتأمين بيئة سليمة للعيش. والهدف الأساسي لهذه الخطّة تمكين بلديّة بيروت من اعتماد سياسة واضحة وفعّالة لتخطيط المساحات العامّة، ولتأهيل حرش بيروت وإعادة فتحه للجميع أولويّة فيها.

اليوم، بعد أن انتهت أعمال التشجير والترميم والصيانة في حرش بيروت، بقي مغلقًا أمام العامّة وبالرّغم من الإجماع على أهمّيّته البيئيّة والإجتماعيّة فهو المساحة الخضراء الكبرى الوحيدة في قلب العاصمة. وفي العام الماضي، كثر الحديث عن نقل الملعب البلدي من المدينة الرياضيّة الى حرش بيروت بحجّة الحاجة الى مواقف سيّارات. الا أنّ مشروعًا كهذا سيقضم مساحات حرجيّة واسعة، ويضيع الحرج بفعل اجتياحه مرّة أخرى باجتياح الباطون. فماذا عن أثر هكذا مشروع وهل من أطر قانونيّة لحمايته؟

3- مشروع نقل الملعب من المدينة الرياضية الى حرش بيروت[7]

 في مطلع عام 2015، طرح رئيس بلديّة بيروت السّابق المهندس بلال حمد مشروعًا يقضي بنقل الملعب البلدي من موقعه الحالي في الطريق الجديدة لاستبداله بموقف سيّارات يتّسع 2500 سيّارة كحلّ مفترض لأزمة إزدحام السير. وبالمقابل، أوضح المشروع عن نيّة بناء ملعب بلدي جديد يمتاز بمواصفات دوليّة في منطقة قصقص على طرف حرش بيروت، في “قطعة غير مشجّرة منه” . وكان حمد قد “أعلن عن بداية الدراسات حول ملعب قصقص، وانها ستنتهي مع نهاية العام الجاري “.

ولكن الادّعاء بأن المشروع المطروح لن يدمّر الحرش بحجّة أنّه سيقام في طرف غير مشجّر منه حديث غير واقعي بتاتًا. فبناء ملعب حسب المعايير الدوليّة يحتّم استبدال مساحات حرجيّة كبيرة بمساحات اسمنتيّة ضروريّة تقنيّا لتشييد الملعب والمدرّجات ومرافق خدمة الجمهور واللاعبين فضلا عن مساحات واسعة لمواقف السيّارات اللازمة لاستيعاب روّاد النادي، وذلك سيؤدّي الى تجزئة الحرج الى أقسام وبالتالي لن يكون الغطاء النباتي متكاملاً مما يعني تدمير الحرج وأهميته البيئية والايكولوجية، ويتناقض مع الرؤيا المدنية التي كرّستها كافّة المخططات التوجيهية بكونه رئة خضراء ومنتزه ذو أهمية إقليمية للعاصمة ومحيطها.

 ومن جهةٍ أخرى، “اقترنت موافقة مجلس الوزراء على هذا الملعب بدرس إمكانية الدخول إليه من طريق شارع عمر بيهم، وهو الشارع الذي شقّ الأرض الحرجية في السبعينيات إلى عقارين: الحرج الحالي وميدان سباق الخيل”.[8] ولكن، اذا أقمنا تحليلاً ميدانيًّا للمنطقة،  نرى أنّ الملاعب الحالية الموجودة ضمن نطاق الحرش (وبالتالي المساحة الاسمنتية الغير مشجّرة الوحيدة أي المكان المخصص لبناء الملعب الجديد حسب الخطّة المطروحة) هي في الطرف المحاذي لشارع 22 نوفمبر (لجهة منطقة الطريق الجديدة)، بينما شارع عمر بيهم المعتمد للدخول لهذا الملعب الجديد يقع في الطرف المقابل (لجهة منطقة بدارو وقصقص). وبالتالي، تخصيص هذا الشارع للدخول الى مواقف السيارات والملعب الجديد يؤدّي حتمًا الى اقتطاع جزء مهمّ من الأشجار الموجودة اذ أن الطرقات الضرورية لدخول السيارات والمشاة وما يرافقها من مراكز مراقبة وشراء التذاكر (Contrôle d’accès) تمرّ وسط الحرج وتقسمه الى جزأين على الأقل.

اليوم، لا يزال مصير هذا المشروع مجهولا، ان كان سينفّذ أم سيبقى حبرًا على ورق، ولكن في ظل سياسة عامّة من السكوت وعدم إشراك الناس بالمخططات التي قد تغيّر وجه مدنهم أو أقلّه طرحها في مساحات عامّة للنقاش كما يجري في كل مدن الدول المتحضّرة، تبقى مخاطر الإطاحة بالحرج محدقة، وثمّة قوانين قد تشكل ركيزة موثوقة لجمعيات المجتمع المدني المناهضة لهذا المشروع لحماية حرش بيروت والحفاظ على حق اللبنانيين بهذه المساحة العامة.

فقانون البيئة – مرسوم 8633/2012[9] يتطلب تقديم الأثر البيئي لأي مشروع في نطاق الاحراش والمناطق الطبيعية المصنفة وذلك “لتحديد وتقدير وتقييم آثار المشروع على البيئة (…) قبل إعطاء القرار بالموافقة على المشروع أو رفضه”.[10] وهذه الدراسة لم تقدّم علمًا أنها قد تؤدّي حتمًا الى رفض المشروع الذي قدّمه مجلس بلديّة بيروت السابق. كذلك، قانون حماية الأحراش (558/96) يضع معايير صارمة لحماية الأحراش البلديّة والمشاعات العامّة وحرش بيروت، كونه أملاك عامّة خاضعة للبلديّة، يخضع لهذه المعايير.[11]  من جهةٍ أخرى، يقع حرش بيروت في المنطقة التاسعة من تخطيط بيروت[12]  حيث الإرتفاق يمنع البناء بشكل نهائي، وكما أشرنا سابقًا، انشاء ملعب بلدي يتمتّع بالمواصفات الدولية يحتّم تشييد مباني متفرّقة لتأمين كافة الخدمات الضرورية لللاعبين والجمهور لتفعيل هذا المركز الرياضي، ويشكّل مخالفة فاضحة لنظام المنطقة وتخطيطها.

ولكن إضافة الى كل النصوص والقوانين الحاليّة، لن تكون حماية حرش بيروت فعّالة وحقيقيّة إلا بإقرار مرسوم خاص بالحرج من قبل السلطات المعنيّة، يمنع كافّة الأعمال في نطاقه (أسوةً بالمناطق المصنّفة محميّات) ويكرّسه متنزّه عام مفتوح للجميع، ويكون المرسوم نهائي، غير قابل للمراجعة أو التعديل من قبل أي سلطةٍ كانت، وبذلك يؤمّن حماية الحرج على المدى البعيد وبقائه رئة المدينة الخضراء مهما تمدد العمران أو تبدّلت السلطات المحلّية أو الدوليّة.

في ظل الجدل المستمر حول قضيّة حرش بيروت وأحقيّة المواطن بالدخول إليه وعدم قانونيّة إغلاقه المستمرّ واستثناء الزوار الأجانب من هذه القاعدة، كان للمجتمع المدني نضالاً واسعًا لإعادة الحرش الى حياة المدينة والدور الأبرز لجمعيّة “نحن” التي كانت السبّاقة في تحويل قضيّة حرش بيروت الى قضيّة عامّة ونجحت في تسليط الضوء على أهمّيتها فحضنها الرأي العام ودعمها.

 4- المجتمع المدني: جمعية “نحن” والنضال لفتح حرش بيروت للجميع

أطلقت جمعيّة “نحن” حملتها لإعادة فتح حرش بيروت عام 2011 بدءًا بلفت نظر الرأي العام الى أهميّة المساحات العامّة وتحديدًا حرش بيروت، وحقّ المواطنين بالدخول اليه دون تمييز لأن إقفاله والإجراءات المتّبعة حتّى اليوم غير قانونيّة لكونه ملكًا عامًّا. فنظّم الناشطون ورش عمل متعددة ونقاشات عامّة وحلقات حوار في الجامعات والمدارس هدفها التوعية وتحفيز الناس على تبنّي الحملة ودعمها والإنضمام اليها، فخرج حرش بيروت من النسيان وأصبح القضيّة الأبرز في ما يتعلّق بالسياسة المدنيّة المتّبعة وخصيصًا المساحات العامّة وتوافرها وسبل إدارتها. واقترن ذلك بإقامة وقفات إحتجاجيّة ضد إقفال الحرش والشروط التعسّفيّة المتّبعة لإمكانيّة زيارته، فضلاً عن تنظيم نشاطات متفرّقة دوريّة في الجزء المفتوح من الحرش لتشجيع الناس على قصده وإعادة الحياة له. ولكنّ الدور الأبرز والأهم للجمعيّة كان في التنسيق مع الهيئات المعنيّة والضغط على مجلس بلديّة بيروت للتوصل الى فتح الحرش نهائيا بشكل دائم وفي تقديم دراسات وحلول لتأمين إدارة سليمة للحرش (بعد تكرار البلدية تبريرها إغلاق الحرش لعدم توافر الإمكانات اللوجيستية لحمايته، فاعتبرت المواطنين قاصرين وغير مؤهّلين لاستخدام المساحات العامة لذلك منعتهم من الدخول الى الحرش للحفاظ على نظافته وعلى سلامة النباتات فيه). ونالت نشاطات الجمعيّة تغطية إعلاميّة واسعة.

استطاعت جمعيّة نحن بحشدها للرأي العام والمجتمع المدني تشكيل قوّة ضغط فعّالة على السلطات المعنية (بلديّة بيروت والمحافظ) ونتيجة لذلك، صوّت المجلس البلدي عام 2013 على قرار يقتضي بفتح الحرش وطالب الجمعيّة بوقف الحملة الإعلاميّة ضدّه وإعطائه الوقت الكافي لتحضيرالمناقصات لتلزيم إدارة الحرش الى شركة خاصّة. استمرّت المماطلة بتنفيذ القرار سنتين وفي حلقة حوار عامّة مع نائب رئيس البلديّة في شباط 2015، اتّضح للجمعيّة أنّ البلديّة مستمرّة بالتأجيل لتعطيل فتح الحرش الى العامّة. فأصدرت “نحن” بيانًا تعلن فيه عن عدم شرعيّة الإجراءات وتطالب بفتح الحرش أقلّه مرّةً أو إثنتين في الأسبوع كما رفعت كتابًا بمطالبها إلى محافظ بيروت القاضي زياد شبيب الذي كان متجاوبًا مع الحملة، واستنادًا الى القرار الصادر عن المجلس البلدي في الـ2013، ولكونه السلطة التنفيذيّة في بيروت، بدأ بالتعاون مع ناشطي الحملة ممّا أدّى الى فتح الحرش مرّةً في الأسبوع، نهار السبت، ابتداءًا من تاريخ 5 أيلول 2015، كمرحلة تمهيديّة لافتتاحه الدائم. في هذه المرحلة، ساهمت الجمعيّة في تقديم متطوّعين لمراقبة حسن إدارة الحرج ولمساعدة البلديّة المسؤولة عن صيانته والتنسيق مع المحافظ.

 وتباعًا، في 26 أيّار 2016، أعلن محافظ بيروت، بحضور المديرالتنفيذي للجمعيّة محمّد أيّوب، عن فتح حرش بيروت للجميع كافّة أيّام الأسبوع ابتداءًا من تاريخ 6 حزيران 2016، من الساعة الثامنة صباحًا حتّى الثانية ظهرًا خلال الأسبوع ومن السابعة صباحًا حتّى السابعة مساءًا نهاري السبت والأحد. كما أكّد أن إبراز بطاقة الهويّة للدخول لن يكون مطلوبًا كما كانت الحال في المرحلة التجريبية، ودعا المواطنين الى الإفادة من هذه المساحة العامّة والتصرّف بمسؤوليّة للحفاظ عليها. وإن كان هذا القرار مخيّب من ناحية مواعيد الدخول القصيرة والتي تقتصر على فترة ما قبل الظهر خلال الأسبوع وهو الوقت الذي يكون خلاله معظم الناس في عملهم، الا أنه إنجاز كبير ومهمّ جدًا إذ دام انتظاره ما يقارب عشرين سنة! ولعلّ الأسباب تكمن في عدم توافر الإمكانات اللوجستيّة الضروريّة في الوقت الحالي لتأمين الحراسة والصيانة للحرش ونأمل أن تتوسّع الفترة الزمنيّة المسموحة لزيارة الحرش لتشمل النهار بكامله في القريب العاجل ليتمكّن اللبنانيّون حقّا من الإفادة منه.

خمس سنوات من نضال المجتمع المدني تكلّلت بالنجاح عبر فتح الحرش دون خصخصة إدارته (وهنا التحدّي الأكبر لجمعيّة “نحن” حسب محمّد أيوب)، وهذه سابقة لحراك مدنيّ في لبنان أثبتت أنّ إصرار المواطنين وتعاونهم ونشاطهم المستمر في سبيل قضايا محقّة هو أفضل حل لتشكيل قوّة ضغط فعّالة على السلطات المعنيّة لاسترداد حقوقهم المسلوبة. فقضيّة حرش بيروت ليست دراسة لحالة مُدُنيّة أم مجرّد قصّة لمنتزه مقفل انّما هي نموذج عن استهتارمنتشر لدى السلطات بالفضاء العام واستباحته من جهة وعن التعدّي على أبسط حقوق المواطنين من جهة أخرى في جوّ سائد من اللامبالاة عند غالبيّة الناس وانفصالهم عن شؤون المدينة وسياسات إدارتها.

ولكن، تجربة “نحن” والمجتمع المدني الذي حضنها تعيد لنا الأمل، على أن يستمرّ النقاش حول كافّة المساحات العامّة في لبنان ويقترن بالعمل لتفعيل دور الهيئات المحلّيّة وإشراكهم في طرح المشاريع واتّخاذ القرارات المناسبة والفعّالة لتطوير مدنهم وقراهم.

20150912_1842102015-09-12 21.12.00


[1]بيروت في التلريخ والحضارة والعمران” ، الشيخ طه الولي، دار العلم للملايين، 1993

[2]  Fadi Shayya, At the Edge of the City”, Discursive formations, 2010.

[3]بيروت في التلريخ والحضارة والعمران” ، الشيخ طه الولي، دار العلم للملايين، 1993

[4] Schéma Directeur de la Région Métropolitaine de Beyrouth, Juin 1986

[5] Schéma Directeur d’Aménagement du Territoire Libanais, Rapport final, 2004

[6] Plan vert et paysager de la ville de Beyrouth, Rapport préliminaire, Mai 2012

[7]مشروع جديد في حرج بيروت يؤخر فتحه أمام الناس، سعدى علّوه، جريدة السّفير،19/01/2015

بلدية بيروت: الباطون ينهي آخر المساحات الخضراء، هديل فرفور، جريدة الأخبار،07/11/2015

 الملعب البلدي البديل: استثمار العام والخاص، إلهام برجس،جريدة المدن، 26/02/2015

[8] بلدية بيروت: الباطون ينهي آخر المساحات الخضراء، هديل فرفور، جريدة الأخبار،07/11/2015

[9] أصول تقييم الأثر البيئي – مرسوم رقم 8633 – صادر في 07/08/2012

[10] Environmental Impact Assessment

[11] “Le droit forestier. Une loi de 1996(558/96) est venue tenter d’apporter une réponse au processus de déforestation (…) en augmentant le degré de protection des forêts appartenant à l’Etat et aux municipalités. On peut donc supposer que les forêts protégées au titre de cette loi sont régies par un ensemble de règles assez contraignantes pour l’Administration, garantissant en principe leur préservation. » Sébastien Lamy, Sami Ibrahim,  Recueil des textes relatifs au droit de l’urbanisme et de la construction au Liban, Majal, ALBA, Publications de l’Université de Balamand, p.295.

[12] Zonage: Zone 9 Non-Aedificandi